دمشق ما زالت تتزين بتاريخها
08 أغسطس 2018

[JUSTIFY]اسم الكاتب : أبو علي حسن (*) بالامس كنت قد اشتقت لعروسة التاريخ ،ووددت ان اعرج على دروبها ومسالكها وميادينها لعلني اروي روحي من رضاب ثغرها، واستنشق عبير ازهارها، واملأ بصري من مفاتن قوامها وزمانها. ها هي دمشق الحبيبه لم تزل تتغندر بزيها وتتبرج بكحلها وعطرها المعتق مذ كانت اول حاضرة في التاريخ، لم تغير زيها بألوانه الزاهيه المثير للشهوات، كل شيئ فيها ينبض بالحياة، صبايا يتدرجن عل الارصفة وفيهن من الحسن والجمال ما يسترق البصر، وشبابا يمتلئون فتوة وحيوية، تسمع ضحكاتهم وحيويتهم وتعليقاتهم وترى فيهم الوجه الاخر من دمشق المستقبل في مقتبل عمري كنت قد عشقت بنت الحارة عشقأ عذريا لا يجيده الا الصغار الابرياء، وكنت كل يوم اتدرج من امام منزلها ذهابا وايابا وبيدي كتابي المدرسي متحججا بالقراءة لعلني احظى برؤيتها، وقد لاحظت امي بحسها العفوي وذكائها الفطري هذا التدرج اليومي، فقالت لي : " والله يما هذه مش دراسة والله يما هذا طريق الحب ميدان " نعم طريق الحب ميدان يا دمشق ، ساعثر عليك في كل شارع وحارة وزقاق وحانوت انا لست سائحا ولا قاصدا البيع او الشراء، انا عاشقا ابحث عن ظمأي، انا ابحث عن عطرك المعتق ..ابحث عن الدرر العالقة في شالك الوردي، والاسرار المخبئة تحت معطفك الربيعي، ابحث عن ايقونة تجيد الكلام بلسان عربي .. حسنأ بدأت المشوار من البرامكة الى شارع القنوات المتفرع من شارع خالد بن الوليد والممتد حتى تقاطع شارع الدرويشيه الاكثر عراقة وشهره، وقد ازدحم بالمارة من بائعين ومشترين، رجالا ونساءً ولطالما وقفت عند معالمه وازقته واقواس مداخله الفرعية ..هنا مدرسة السعادة ذات الشهرة الواسعه، لحظات امام بنائها القديم متأملا ذلك الطراز الهندسي التاريخي والحجارة الحمراء وقد جرى ترميمه وتذكرت ولدي الذي تعلم فيها الثانوية العامه .. وواصلت سيري بخطى بطيئة، يستوقفني كل حجر وكل باب خشبي وشباك عتيق، ووسعت بصري لاسترق بيوتأ مفتوحة ابوابها الخارجية لارى فنائها الكبير تتوسطه البحرات الشامية الدمشقية وتدفق المياه من نوافيرها، وعلى جدار فنائها قواوير الورود الدمشقيه وشجيرات الياسمين التي تنثر عطرها الى خارج الفناء وشجرة النارينج التي تتزين بثمارها كقناديل برتقالية معلقة على الغصون الخضراء في منظر خلاب لا تمله العين الذواقه : ولا اعرف سر بقاء هذه القناديل في غير موسمها، سوى عدم قطفها لتبقى مضيئة صحن الدار في كل فصل من فصول السنه. واصلت سيري، واقتربت من جامع الدرويشيه المشهورفي منتصف شارع الدرويشيه المزدحم بالعربات والمشاة من الباعة والمتجولين ومددت نظري من بوابة الجامع اتفرس الفن المعماري والحجارة الملونة التي تضفي بعدا جماليا لا يقاوم، وقطعت الدرويشية الى شارع مدحت باشا او الشارع المستقيم والذي ينتهي عند قوس باب شرقي، ثمة حيرة في اختياري لهذه الحارة اوتلك ، فالحارات كثيره وكلها تناديني لضيافتها ، تلك الحارات التاريخية والازقة العامرة بالناس من اصحاب المهن والتجارة، هذه حارة الصوف وتلك حارة الحبالين وبجوارها حارة المسكيه، اخطو ثم اتدرج، اقف امام هذا الحانوت متأملا وذلك المحال مندهشا كأني لاول مرة ازورهذا الشارع واتعرف على معالمه، ربما هذا شعور الخوف من المجهول على دمشق الغاليه او قراءة متأنية لعهد جديد بيني وبين جلق، يأخذني الشارع بحوانيته وواجهاتها المتماثلة وابوابها الخشبية من طراز موحد تعلوها مظلات خشبية من طراز فني واحد ليتحول المنظر الى بانوراما حية يختلط فيها الحاضر بالماضي لا زلت اسير ببطئ، ثمة قوة تكبح قدمي، تلك الروائح العطرة التي تنثر عبيرها على جنبات الشارع المسقوف بأقواس الحديد حتى شارع الامين، وتلك الاشياء المتنوعة والمعروضة والمرصوفة على الرفوف والواجهات، العباءات الدمشقيه والاثواب الشاميه، اصواف، اتقدم قليلا، اقف قليلا، زجاجات العطور الشامية المركزه " الاسانس"، الاخشاب الكريمه العطره، البهارات التي تزكم الانوف، اخشاب الصندل، انواع المسواك، الفواكه المجففه،المكسرات، الزبيب الاسود والاحمر والاصفر وما تشتهي، مساحيق الجمال للنساء، اطلب وتمنى وربما لبن العصفور ..! هل اكمل سيري الى باب شرقي ام اكسر شمالا نحو شارع البزوريه، اسمع صوتا من بعيد تعال الى باب شرقي لترى اسرار اهل الشام ، وكان وعدي لهذا المنادي سأعود ، ولكن حسنأ سأعبر البزورية وما ادراك بشارع البزورية، اسأل كل امرأة شامية تعطيك حكاية عشقها مع هذا الشارع الذي يمتلئ بكل انواع المكسرات والشوكولطات والسكاكر والمجففات من كل انواع فاكهة الغوطة الدمشقية وكل اطايب وحلو الشام، هنا على يميني حمام نور الدين العريق في جماله وتاريخه ومعالمه الداخلية واوانيه وسراديبه واجران الصوان المائيه وصنابير المياه النحاسية، كل شيئ فيه قادم من ذلك الزمان الدمشقي الجميل اقف لحظات اتأمل ما كتب على باب الحمام، وامضي في بحثي ومشواري الطوبل، هنا قصر العظم كانت تقام فيه السهرات والافراح والليالي الملاح، اذا ما وطأت قدميك فناءه الواسع وغرفه الخاصة للحرملك والسرملك على جانبي الفناء، يتراءى لك ذلك الزمن الدمشقي الذي لا يخلو من الحياة ورغد العيش، يبدو انني لست وحيدا من يبحث عن وجه دمشق، يقابلني الممثل الكبير الحلبي سليم صبري يمشي الهوينا يتفرس الوجوه ويتأمل واجهات المحالات وما تعرضه من بضاعتها كأنه هو الاخر يبحث عن عشق قديم، والكل يحييه ويدعوه احتراما وتقديرا، ولم ازل امضي ماراً بسوق الذهب يتفرع منه زقاقا اشبه بزقاق زنقة الستات بالاسكندريه يباع فيه كل انواع وموديلات الملابس النسائية والاكسسوارات والاقمشه، وتذكرت ريا وسكينه ومضيت في طريقي لأقف امام ذلك الجامع الاموي الكبير وباحته الواسعه متأملا حجارته وسر بقائها كل هذه السنين كبنيان مرصوص تتحدى الزمن، زمن الرومان والبزنطينيين والايوبيين والمماليك، وزمن الزلازل والنكبات، ولعلها اليوم تتحدى بارودهم وقنابلهم ، وتنادي واه يا وليد يا ابن عبد الملك اين انت ..؟ لم ازل في طريقي ابحث عن ضالتي ومضيت راجعأ محاذيا سور الجامع متأملا تلك الاثار الرومانيه على بعض الحجارة المشيد عليها هذا الجامع الخالد الذي يسرد رواية مجدنا، هنا مقهى النوفره ملتقى الاصدقاء والخلان واستراحة السياح وعاشقي الازمان الغابره، هذه المرة كان المكان حزينا بسبب غياب السياح ، لكنه لم يقفل ابوابه في وجه رواده وعاشقي الحكواتي الذي يسترسل في حبك احداث روايته، لقد هدني التعب وجلست على الكرسي الخشبي المفتولة قاعدته من حبال النخيل وقبالتي ذلك الباب الخشبي الكبير لجامع امية من الخلف ، ويا لعظمة تاريخنا حين يغني .. وطلبت كأسا من عصير الجزرلعله يحسن من قوة بصري لاستمر في رحلتي بين اسرار وحارات دمشق العروبة. عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين [/JUSTIFY]