القائد أبو غلمى يكتب: الحركة الأسيرة الفلسطينية، الواقع الراهن، والمهام الوطنية
08 أغسطس 2018

[JUSTIFY]لنبدأ بقول شاعرنا الكبير محمود درّويش : للسجنِ كثافة . وما من أحد قضى ليلة فيه إلا دَرّب حُنجرته على ما يُشبه الغناء، فتلك هي الطريقة المُتاحة لترويض العُزلة وصيّانة كرّامة الألم . أن تسمع صوتُك المَبحُوح يعني أن آخركَ قد سامركَ وأسَرّ لكَ بأخبارك الشخصية في غرفة كُلما ضاقت ، إتسع ما وراءها واحتضنت العالم... مَدْخَلْ : هكذا إذن ، كان ولا زال وسيبقى الاسرى في سجون الاحتلال، يَنشدون الحرية ، ويعملون بكل الطرقِ لنيّلها ، وإلى أن يتحققَ هذا الهدف النبيل ، يعملون على صون كرّامتهم وحقوقهِم الطبيعية رغم الهجمة المنُظمة والمتَجددة والشرسة التي تشنها سلطات الاحتلال على الحركة الوطنية الاسيرة ، مُستهدفةً انجازاتها ومُكتسباتها ودورها .. وليسَ هُناك أشّد وأقسى من أن يعيش الانسان حالة من القهر و العذاب دون أن يكون قادرًا على وضعها في سياق ما ، مفهوم ، وتحديد مصيرها . إنه الشعور بالعجز وفقدان الكرامة الانسانية، عندما يجتمع اليقين مع القهر، ويبدو لك أن العالم ليسَ وحده من تخلى عنك ، وانما لغتك ايضا خانتك ، أصبحت عاجزة حتى عن تعزيتك ، أو أن تتأوه ، آه الالم ، وتكون مفهومة ومُدركة من قبل الاخر " الحُر" ! وتكون لُغتَك - قادرة على إختراق الضباب الاعلاميّ و السياسيّ الكثيف والذي يحجبك عن العالم. لكن يظل الامل قائمًا في أن تحتل " قضيّتك " كأسير حرب وحرية ، مَكانتَها " المعقولة والمقبولة " على الاجندة الوطنيه الفلسطينية! أحيانا ، نلجأ نحن الاسرى لتبسيط المُرّكب في عذاباتنا، وهذا من أجل " الضرورات" الاعلامية طبعاً ، لكن حينها ، قد يبدو العذاب بَسيطاً ولا يستحق الاهتمام ، أو ...قد تضطر للتهويل والتضخيم ، فيكون من السهل على عدوَك تفنيد إدعاءاتك ليُكرّس حالة عَزلك والمزيد من حصارك. وهُنا ستقف أمام خيّارين : إما ان تكُفَ عن كونكَ ذاتُك ، وتتحول كُليًا الى موضوع سِجنك ، أو تتَحول ذاتك إلى الموضوع وتبحث عن اعادة تعريف للتعذيب وأسبابه وأهدافه، الامر ليس سهلاً ، أن تكون الذات الباحثة وتكون موضوع البحث في نفس الوقت ، وهذا يعني ان تكون المُعذَب والمُبُلِغ عن التعذيب، أن تكون المشهَد والشاهد، أن تكون التفاصيل وتكون التجريد ، وكله ، في آن واحد! في العزل: لقد أصبحَ القمع مُركبًا ومأساويًا في سجون الاحتلال كي يتماشى مع خطاب جديد عن " حقوق الانسان" في عالمنا ! إنه القمع الحداثويّ مُقّنعٌ ومَخفىّ ومُستتر ، فلا صورة له ، ويَصْعُب تحديده في مشهدٍ واحدٍ ، أو في إجراءٍ واحدْ. هناك مئات " الاجراءات الصغيرة " والاف " التفاصيل الصغيرة" التي تُستخدم كأدوات قمع وتعذيبِ يوميّ ضد الاسرى ولا يمكن إدراكها إلا في الاطار الكُلّيّ والمنطقيّ الذي يقف وراء هذه المنظومة المُتكاملة في مؤسسة العزل / القمع.. التعذيب والقمع مُختلفان عَمّا قرأناه في كتاب " تحت أعواد المشانق" *، ليوليوس فوتشيك ، ورواية " تلك العتمة الباهرة" * ، وهو غير ما جرى وصفه لنا في أدب السجون ، نحن اليوم نواجه تعذيب من نوع آخر ، أشد وطأة وقسوة من ذي قبل ، فالخصم ، " بحضارته " ، يُحول حواسك وعقلك لتَعمَلَ كأدوات تعذيب ضِدك ، فيأتيك هادئًا ومتسللًا ، لا يستخدم هرّاوة ، ولا يفتعلُ ضجةً ، الا انه يعيش معك، في عزلك، في الزنزانة ، في الزمن ، في الباحة المشمسة ، وفي الوفرة المادية النسبية! التحدّيات اليومية الرّاهنة : إن الهدف الذي يريد العدو تحقيقه من وراء استخدام هذا الشكل من التعذيب ( العزل ) والقمع التعسفي هو اعادة صياغة البشر مرة اخرى وفق الرؤية " الاسرائيلية " الجديدة ، من خلال صهر الوعي الوطني الفلسطيني، وعي النخبة او الطليعة المقاوِمة ، يجري هذا من خلال منظومة المُراقبة المستمرة واحكام السيطرة على حركة الاسرى في إطار مجموعة من السياسات والاجراءات اليومية التعسفية ، وأبرزها : * فصل وتعميق الفصل بين الاقسام ، وداخل السجن الواحد ، ( عزلها ) عن بعضها البعض ، وفقا لتقسيمات واعتبارات " مُتعددة وكثيرة ، بما فيها اعتبارات " جغرافية " ! . * الغاء العمل مع لجنة الحوار ، ومع لجنة تمثيل الاسرى ، المؤلفة من مندوبي الفصائل ، واستبدالها بناطق بإسم الاسرى او ممثلاً عنهم أحيانا! . * إنزال العُقوبات الجماعيّة بحق الاسرى عند اتخاذ اي خطوة نضالية ، حتى وان كانت رمزية ، ومنع اي مظهر جماعي ، كتقديم العزاء اذا توفى أحد اقرباء أسير ، أو في وداع و استقبال اسير ، بل ومنع إحياء ذكرى إنطلاقة الفصائل واحياء واقامة المناسبات الوطنية .. * النقل والترحيلات المُكثفة والاجبارية للكادر التنظيمي والوطني، هذه سياسة مُنظمة ومدروسة، تهدف الى ارباك الاسرى وضرب " استقرارهم الداخلي " اي منع استقرار عملهم التنظيمي داخل السجن . إن رحلات العذاب التي تسمى ( البوسطة) والتنقل بين السجون والمحاكم ، تعد هي الشكل الاكثر قسوة في أشكال التعذيب والاذلال. * تعميق نظام الفردية في العلاقة مع الاسير ، عبر تقديم الطلبات الخاصة به ، وغياب نسبي للمطالب العامة او الهم الجماعي للحركة الاسيرة . وهذا ما نلمس نتائجه اليوم مع دخول البعض افراد - في خطوات نضالية فردية، قد تعبر عن مطالب حقيقية ، لكنها تظل هموم شخصية وليست حقوق جماعية او حالة تمثيل عامة. * الفصل بين الاسير واهله ، ومنعهم حتى من ملامسة ، واحتضان بعضهم البعض ، من خلال تركيب زجاج عازل في غرف الزيارة . * التفتيش العاري والتفتيش الليلي . * عزل عدد من الاسرى انفراديا او جماعيا ، وبعضهم تم عزله لسنوات طويلة . * التحكم بنوعية الكتب والمجلات والصحف التي تدخل للاسرى ، وكذلك تحديد محطات التلفزة ومنع التعليم الثانوي والجامعي، واهمال الحق في العلاج وغيرها وغيرها من الاجراءات التعسفية والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا ... الروح والعقل ، عملية صهر الوعي.. لم يعد الجسد هو المستهدف الوحيد ، فلا يُعذب الاسير بالحرمان المادي والتجويع ، انما تُعذب الروح والعقل ، وهما المستهدفان منهجيا، كما يُمكن اعتبار " الوفرة المادية " وسيلة من وسائل التعذيب الحديث ، ويرتبط الامر بالتغيرات التي طرات على واقع و دور الحركة الاسيرة بين الماضي والراهن، وطبيعة التحديات الجديدة التي نواجهها داخل السجون... للاسف ، تختلف الادوات والمفاهيم والافكار حول سبل مواجهة كل ذلك . هذا يشكل عاملا اضافيا لتعزيز استمرار القمع والتعذيب ، فالاسرى يحتاجون للمعرفة والاطلاع حتى على تاريخ وواقع الحركة الاسيرة ، و من اجل تعزيز قدرتهم الجماعية على المواجهة والاستمرار في الحفاظ على الذات ، والارتقاء بحالة الصمود في مواجهة كل هذه الاجراءات التعسفية . الحالة الراهنة للحركة الاسيرة لا تُعبر عما عرفناه وقراناه عن تاريخ ونضالات الحركة الاسيرة ودورها الوطني المميز ، اذ اضافة الى انجازاتها التاريخة الكبيرة، انتصرت دائما لكل قضايا وحركات التحرر في وطننا العربي وفي العالم .. ما نراه اليوم من عجز رسمي فلسطيني عن اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب ، يُلحق افدح الاضرار بالاسرى ، ليس المقصود هنا التشهير او المُعُاتبة ، انما للتأكيد على واقع الحال ، وما يعتري ادواتنا الفلسطينية المتُاحة من ضعف في مواجهة سياسة صهر الوعي ، وهي ادوات أصبحت بالية تحتاج لتجديد وتحديث في مواجهة مؤسسة القمع.. . ملاحظات رئيسية: في الجوهر . واقع الحركة الاسيرة وبِكُل تعقيداته وحجم الاستهداف والجهد المعادي المبذول ، يجب ان لا يعني ترك عملية مواجهته للاسرى وحدهم ، ومهمة الخروج من هذه الحالة وبقواهم الذاتية فقط ، ( القضية) تستدعي اضافة الى صمود الاسرى دورًا حقيقيًا للقوى السياسية ولجان وهيئات ومنظمات الدفاع عن الاسرى وحقوق الانسان والاتحادات الاهلية والشعبية وكل المتضامنين مع شعبنا ، عربا واجانب ، رسميين وشعبيين ، فضلا عن ضرورة الحراك الجماهيري في الشارع ، حراك مؤثر وقوي ومنظم ، في كل اماكن تواجد شعبنا ، داخل الوطن وفي الشتات.. نُتابع باهتمام كبير النشاط السياسي و الاعلامي والشعبي والرسمي الذي برز أكثر في الاعوام الاخيرة حول " قضية الاسرى " وأوضاعهم ، وجرى الحديث عن " تدويل قضيتهم " مثل بقية العناوين الاخرى للقضية الفلسطينية ، مع ذلك، فاننا نرى ان هناك فارقًا كبيرًا وهائلاً بين فلسفة انهاء ما يسمى " مَلف الاسرى " و " تبيض السجون " في اطار عملية تسوية سياسية ، وبين ما ندعو اليه نحن وهو تدويل قضية الاسرى باعتبارها حلقة مركزية و رئيسية من حلقات النضال الوطني الفلسطيني ، وطريق اخر ، تصنعه الانتفاضات والثوات الشعبية التي لا تتوقف طالما بقيت هناك حقوق فلسطينية مُغتصبة. استمرار الصراع والسعي لاسترداد الحقوق الوطنية المسلوبة ، يعني بالضرورة وجود هذه السجون ويعني وجود المناضلين والمناضلات فيها ، وان اهم مغزى لوجودنا داخل هذه السجون هو وجود القضية الوطنية الفلسطينية التي لا تزال حيّة ،كما ان محنة الاسرى مثل عذابات اللاجئين تنتهي فقط باسترداد حُريّتهم وحقوقهم المنتهكة ، كعنوانيين رئيسيين بما يمثلاه من جوهر لوجود ومعنى القضية.. نبارك كل الجهود الوطنية والقومية والدولية ، على اختلاف اشكالها و مشاربها، والتي تسلط الضوء على معاناتنا ،لكن نؤكد في الوقت ذاته على حقيقة تاريخية هامة وهي اذ طالما كان النموذج النضالي الفلسطيني مثالا حيا للشعوب المناضلة والقادة والمراقبين والاحرار في العالم ومصدر الهام وتأثير وتفاعل انساني وقيّمي واخلاقي على درجة عالية ، كما حشد الكثير من التعاطف والمؤازرة والتضامن الاممي مع قضيتنا العادلة.. مهمات وطنية ، قومية ، ودولية : وعليه ، * مطلوب ان تكون الحركة الاسيرة مركز اهتمام الدوائر السياسية والحقوقية الفلسطينية والعربية والعالمية وعلى جدول اعمال كل حركات التضامن وفعالياتها وبالمزيد من الفعل والنشاط وفق رؤية واضحة . * دفع وسائل الاعلام لتناول قضايا الحركة الاسيرة من زوايا متعددة ، لما للاعلام من دور هائل ومؤثر في عالم اليوم ، بات معروفا للجميع. * نوصي بالعمل على انتاج عروض وبرامج ثقافية واعلامية وفنيه تتعلق بحياة الاسرى ونضالاتهم ، فهناك مئات القضايا والقصص والتجارب والمواضيع الغنية و التي عرفتها التجربة النضالية والمعتقلين الفلسطينيين وعائلاتهم ولا بد من توثيقها. * التواصل مع الجامعات الفلسطينية والعربية والدولية التي لديها مساقات أكاديمية عن القضية الفلسطينية من اجل ادراج تاريخ ونضالات الحركة الاسيرة ، ضمن البرامج الاكاديمية في هذه الجامعات، وكعنوان رئيسي من عناوين النضال الوطني الفلسطيني . * نقترح ان يكون العمل شاملا ، ويتضمن الدفاع عن الاسرى والمناضلين في السجون خارج فلسطين المحتلة ، ونقصد السجون الاجنبيه والعربية والموجودون فيها على خلفية علاقاتهم بالنضال الوطني الفلسطيني ، كالمناضل الرفيق جورج عبد الله و الرفيق " كارلوس " في السجون الفرنسية ، وغيرهما من المناضلين في السجون. وأينما كانوا .. * ان ما يمكن العمل عليه كثير ، وتظل مهمة نقل قضية الاسرى الفلسطينيين الى المسرح الدولي باعتبارهم اسرى حرية ، هي الهدف الذي يحتاج منا الى النضال والنشاط المكثف والرؤية الاستراتيجية ، ويستوجب كل الجهد من قبل المؤسسات والسفارات الفلسطينية والعربية حول العالم ، والمتضامنين الدوليين ، للضغط على دولهم وحكوماتهم لتبني مواقف سياسية داعمة ومنحازة للحق الفلسطيني وللاسرى الفلسطينيين ، بوصفهم اسرى حرية واسرى حرب .. وأخيرا ، ندعو الى إستمرار واتساع المشاركة الشعبية في بلدان الشتات والمهاجر ، وتنظيم نشاطات جماهيرية أمام سفارات " اسرائيل " بمشاركة قوى حقوقية والمنظمات الدولية المعنيه والقوى الصديقة ، وتوجيه رسائل الى سلطات الاحتلال ترتكز على اساس نيل الاعتراف بالاسرى الفلسطنيين ، كأسرى حرب وحرية ، ولما لهذا الامر من اهمية سياسية بالغة تتصل بجوهر نضالنا الوطني واهدافه ومن اجل اعادة الصورة النضالية الحقيقية لمعاناة شعبنا ونضالاته وتضحياته في سبيل تحقيق كامل أهدافه الوطنيه المشروعة. . * عضو اللجنة المركزية العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، و مسؤول فرعها داخل السجون ** تحت اعواد المشانق ، للكاتب والمناضل الاممي " يوليوس فوتتشيك " *** تلك العتمة الباهرة : رواية المغربي طاهر بن جلون [/JUSTIFY]